المقدس.. من المطلق إلى النسبي.. من السماوي إلى الأرضي
كاتب الموضوع
رسالة
amghnass iymass
عدد الرسائل : 13 نقاط : 39 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 06/04/2009
موضوع: المقدس.. من المطلق إلى النسبي.. من السماوي إلى الأرضي الجمعة 10 أبريل 2009 - 18:25
المعرفة بكل ما تنطوي عليه من مفاهيم ومعتقدات ورؤى مصدرها الكائن البشري مهما تقادم عهدها. ان أفضل تصنيف ممكن في هذا المجال يمكن ردّه إلى أحد عاملين.. 1- ان المعارف الدينية وما يتعلق بها، هي نتاج بشري محض، وقد مرت باستحالات وترجمات وانتقالات ساهمت في تبلورها وانشطارها واختزالها في قوالب مستقلة. 2- ان المعارف الدينية وما يتعلق بها تعود إلى مصادر مجهولة لم تترك دالة على هويتها، فإن لم تكن هاته المعارف محصلات بشرية وخلاصات أرضية، فليس ثمة ما يقطع بمصدرها ضمن أصول البحث العلمي والعقلي. ان مزاعم مختلف الأديان بأصولها السماوية (المطلقة) توحي بوجود مؤلف في مكان ما غير مدرَك، ينتج هذا الركام العارم من أفكار ورؤى متفاوتة لتأجيج عوامل الفرقة والتناحر على الأرض، وهو لا يسعى إلى الحقيقة ولا يجيب على الأسئلة ويستخدم لمساعدته أناسا مرائين ومشعوذين استطاعوا المحافظة على مصالحهم الطبقية واحتكروا أسرار الكهانة لحسابهم الخاص.
ان تأكيد المعارف الدينية على آلات الحسّ والنفس وتقاطعها مع البحث العقلي والمنهجية المادية، يجعلها أقرب إلى مجال العلوم النفسية العلاجية منها إلى البحث الفلسفي واستقصاء الحقيقة. لقد قدّم (Plato) رؤيته الخاصة في مجال الالهيات، راسما القاعدة الأساسية للفكر الديني وكان لـ (Aristotales) تهيئة قواعد المنطق وأنساق اللغة الحاملة للفكر، وهاته لما تزل معمولا بها حتى الآن، ولولاها، لتكشفت ضحالة الكثير من المعارف البشرية ومنها الفكر الديني. ولا بدّ من عود لمعالجة الموضوع بتوسع أكبرّ. خلاصة القول، أن مسار الزمن يؤكد انحدارا بيانيا لمنظومة المطلق (فكر وآليات) من السماوي والغيبي إلى الأرضي والمعلوم. ان استشراء تدخل الفكر الديني في تفاصيل حياة الفرد اليومية، واختزال حقوقه وحرياته الاساسية، بجعله أسير وصاية كهنوتية (!!) باطنية/ سياسية طبقية، أعاد ترسيم صورة أرضية للدين، كنظام سياسي مساعد لسلطة حاكمة، ويجمع في قبضة واحدة، مثلث (دين، سياسة، مجتمع). فالدين، نظام أرضي مادي لا يتورع عن النزعة القومية والطبقية في تحقيق جوعه التاريخي للقيادة والهيمنة والاحتكار التام لعوامل السلطة والانتاج. فالدين (كفكر..) لم يأتِ من أجل التغيير والاصلاح والتحرير، وانما لاحتواء النظام الاجتماعي وأطره السياسية وسدّ باب الاجتهاد والمعارضة والتطور الاجتماعي. * المحور الأول.. من السماوي إلى الأرضي.. يمكن تصوير مسيرة انحطاط (المقدّس) على مرحلتين أو محاولتين.. 1- تجميع الميثولوجيا القديمة (الوثنية) وإعادة انتاجها في صورة ديانات (كتابية). 2- الخروج من دائرة الفلسفي الغيبي (Metaphesic) إلى دائرة السياسي الطبقي السائد أو الطامح للسيادة وتوجيه كل شيء في الحياة الخاصة والعامة. المكتشفات واللقى الأثرية المتيسّرة كشفت عن جوانب غنية من معارف الميثولوجيا القديمة، والمنتظمة في صورة عوائل (إلهية) ذات علائق قرابية وصراعات متنافسة لأغراض السيادة و الاستحواذ. ولا تخلو تلك المنطومات من مبادئ (العلّية و الغائيّة). فقد كانت للسومريين والبابليين والهند وفارس ومصر والاغريق عوائل قرابية من الآلهة التي تقاسمت السلطة والنفوذ في عهودها القديمة. وفي نفس المنظور اقتبست (اسرائيل) أطار المنظومة القرابية ذات الارتباط المباشر بالمصدر (الذات) الالهية. ان صور القرابة بين أصول والالهة وجنس البشر لم تكن غائبة عن الفكر القديم، وثمة ما يشير إلى حصول (تزاوجات..) بين (أبناء الآلهة -و- بنات البشر) وظهور أجناس هجينة أو آلهة نصف سماوية ونصف أرضية. ويمثل (جلجامش) أحد رموز هذه الظاهرة. لقد قامت العقيدة الاسرائيلية على جملة أسس دقيقة وواضحة للعيان.. 1- زعم اصطفاء (سماوي) لعرق بشري محصور في بكورية شخص يعقوب ابن اسحق ابن ابراهيم المنحدر بدوره من أرض أور على الفرات جنوبي العراق. 2- التأكيد على ذرية الجيل الثالث كان بقصد قطع أي احتمال صلة بين الجيل الجديد والأصل المنحدر منه جدّ العائلة. 3- انتقال ذرية يعقوب (اسرائيل) في الأرض على طول بلاد الشام وصولا إلى مصر. 4- استغراق حقبة زمنية تتجاوز أربعة قرون لانتاج شعب اسرائيل، حيث يدخل بنو اسرائيل إلى مصر بعدد سبعين نفرا في عهد يوسف، ويزيد عدههم على المليونين عند الخروج على يد موسى. 5- تأكيد الكتاب على موت جميع الخارجين من أرض مصر وعدم وصول أحد منهم إلى أرض (الموعد/ كنعان) ما عدا شخصين (يشوع وكالب)، يرافقهم جيل جديد ولد خلال أربعة عقود في صحراء سيناي. ان اربعة قرون واربعة عقود كافية لانتاج شعب يتمتع بعلاقات قرابية داخلية (عرقية) خاصة جدا، ويمكن مراجعة أسفار التوراة لملاحظة الضوابط الدقيقة في تنظيم العلاقات البينية والزواجات العائلية وتحريم (/تجريم..) أيما علاقة أو تزاوج خارج العائلة (الأمم..) ما يمكن ملاحظة بقايا هذا النظام في ظاهرة التصنيفات القبلية لمجتمعات شرق المتوسط وعلاقات النسب والدم والزيجة الضيقة بينها. لكن ما يميز آل إسرائيل وأسباطهم الأثني عشر امتيازهم بالاصطفاء الالهي دون غيرهم، وبالتالي اختصاصهم بامتيازات مادية أرضية دون غيرهم. فالتناخ لا يتحدث عن ميثولوجيا طوطمية ولا يتناول عوائل آلهة، وانما يركز على عائلة بشرية ذات صلة حميمة خاصة جدا بالاله. 6- ان الفكر الاسرائيلي تجاوز ما سبقه من أديان باحتكاره (الإله..) لنفسه من جهة، وتكذيب ألوهة غيره من الآلهة، وهو ما تجسّد في فكرة (التوحيد..) التي كان الغرض منها تبعية الأمم لإله إسرائيل دون آلهتها. 7- ان فكرة التوحيد الاسرائيلي ليست محايدة أو مستقلة بذاتها، وانما هي مرتبطة ومقترنة بفكرة العبودية.. عبودية الأمم لإله اسرائيل. فبعد تأسيس سيادة آل اسرائيل على سواهم من أمم الأرض وأفضليتهم على غيرهم (لاحظ: مفهوم البكورية ومبرراتها المادية)، يتم تقنين عبودية الأمم في صلب النص والعقيدة. والغريب أن فكرة العبودية الحتمية والتبعية الأممية تناسخت في الديانات السامية، وبما يخدم دوافع الاسرائيليات. * المحور الثاني: من الديني إلى السياسي.. كل منظومة دينية تنطوي على مكانزمات تسلطية وضمانات مصالح طبقية لا تنفصل عن جوهر عقيدتها. ان سفرين من أصل خمسة يختصان بتعيين واجبات وحقوق الكهانة (لاوي)، بينما يختص (تثنية)* بتعيين واجبات الشعب (الوصايا) تجاه الاله، ويحدد التزاماتهم تجاه الشيوخ. أما سفر العدد فقد تضمن احصاءات السكان وتوزيعاتها التراتبية والجغرافية. ويمكن تفكيك البناء السياسي للعقيدة الاسرائيلية على الصورة التالية.. - فكرة الأمة.. ان نظام الزواج العبراني على درجة من التنظيم، يشكل الحفاظ على النسل واستمرار الذرية قاعدة أساسية فيه، ولا يجوز موت أحد بدون خلف، (لا زيجة بدون ذرية). وقد حظى كل سبط من الأسباط الأحد عشر بحدود جغرافية وضمان احتياجاته من مياه وقوت. حيث تم تأمين العناصر الثلاثة الضامنة لكيان سياسي مستمر (جماعة منظمة متماسكة/ أرض/ ضمانات اقتصادية). وتجدر الاشارة إلى الوصايا المقدسة بشأن التكافل والتعاون ونبذ الخصومات والأحقاد والمديونية فيما بين الشعب، ناهيك عن انغلاقهم في وجه الآخر وعدم السماح بنفاذه بينهم. (أحبّ قريبك مثل نفسك!). - فكرة النظام.. وتتشكل من ثلاثة أركان: تخصيص الحكم (سبط يهوذا)، تحديد الكهانة (سبط لاوي)، الشعب (بقية الأسباط). هذا التوزيع لقطاعات المسؤولية وتحت طابع من القداسة والأمر الالهي (موسى)، ندر أن يجد له نظيرا في مكان آخر، ناهيك عن مدى صلته بعقيدة دينية تعنى بتحسين علاقة الانسان مع خالقه وتنظيم طقوس العبادة والاتصال.
- الفلسفة السياسية: آل إسرائيل لهم أفضلية (*) بين أمم الأرض وتتجسد هذه الأفضلية بتمتعهم بعناصر السيادة والادارة والقيم الخلقية والذكاء، واقطاعهم أفضل أراضي المعمورة، وعلى أيديهم تترسخ قواعد العدالة والسلام والنظام العالمي المرتبط بالحكم الالهي الأرضي (قيام مملكة داود على يد المسيا).
والخلاصة.. أن أي قراءة للنص الديني خارج الاطار السياسي والطبقي، يمثل مراوغة للحقيقة وتزويرا لواقع ملموس! (يتبع..) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ • تعتبر الفصول الثلاثة الأولى من سفر التثنية تكملة لسفر (العدد)، ويستهل الفصل الرابع باب الواجبات والوصايا والتقدمات. • الكتاب المقدس عند اليهود يدعى "العهد"، كناية عن العهد القائم بين (يهوه) وبينهم. • جاد المنفلوطي- نظرات في الانجيل- القاهرة- منشورات الكنيسة المرقسية- 1984.
المقدس.. من المطلق إلى النسبي.. من السماوي إلى الأرضي