■ من خلال قراءة تغطية الصحف الأميركية، يظهر قطبان. يتمثل الأول بالصعوبات الاقتصادية التي تواجهها الرأسمالية الأميركية؛ والثاني هو الجهد الثابت لتوسيع القدرة العسكرية للولايات المتحدة. فكيف يمكن أن نفهم ترابط هذين العاملين؟
حتماً، إن النفقات العسكرية للولايات المتحدة هائلة، إذ بلغت، بالقيمة الحقيقية للدولار، أعلى مستوى لها منذ الحرب العالمية الثانية. وقد تجاوزت حتى نفقات مرحلة الحرب الكورية (1950ــــ1953). وعلى الرغم من ذلك، لا تزال الولايات المتحدة تملك هامش تحرك واسعاً نسبياً، أي مقارنة بالناتج المحلي العام. فبنسبة نحو 5 في المئة من الناتج المحلي العام، تبقى النفقات العسكرية الأميركية بعيدة عن الذروة التي بلغتها في خلال الحربَين، الكورية حين بلغت 15 في المئة، والفيتنامية حيث وصلت إلى 9 في المئة. حتى أن الإنفاق العسكري يبقى أقل من نسبة الـ7 في المئة التي بلغت في «زمن السلم» في عهد ريغان سنة 1985.
بيد أن القضية الأكثر إثارة للمخاوف، تبقى مسألة العجز المزدوج التي برزت من جديد بعد سدّ العجز في الميزانية الفدرالية في عهد كلينتون، وقد كان إجراءً ضرورياً على جدول أعمال هذا الرئيس بعد تكدّس الديون الكبير في عهد ريغان. فها هي الولايات المتحدة تغرق مجدداً تحت عجزَين، ليس أخطرهما عجز الميزانية، فقد كان في عهد ريغان أسوأ مما هو عليه الآن، بقدر ما هو عجز ميزان المدفوعات / ميزان المعاملات التجارية الذي حطّم كل الأرقام القياسية. من هذه الزاوية، نواجه صورة تشبه، بعد أن تُدخل إليها التعديلات الضرورية، صورة الأزمة الخطيرة الأولى المرتبطة بالأفول الأميركي في مرحلة حرب فيتنام التي كانت قد كشفت عن حالة إفراط في التوسع، وفق إشارات تلك الحقبة، إذ ساهمت كلفة الحرب في مجمل الإنفاق الخارجي وفي تحول ميزان التجارة إلى الخط الأحمر، ما راح يشد ميزان المدفوعات نحو العجز. وقد نتج من ذلك نهاية نظام النقد الدولي الذي أقيم في «بريتون وودز» عام 1944، وكان قد استند إلى تعادل الذهب بالدولار بثبات، وأسعار ثابتة لصرف العملات.
واليوم، بعد أن يؤخذ بعين الاعتبار تضافر العوامل التي أشرت إليها، أعتقد أننا نعيش لحظة مشابهة من حيث الأزمة والأفول، ويمثّل تراجع الدولار إحدى إشاراتها. ستكون أولى أولويات الإدارة الأميركية الجديدة، محاولة تصحيح هذا الوضع، فسيتعين عليها إصلاح الضرر الذي أُحدث، وهو أمر ليس مستحيلاً تماماً. فالولايات المتحدة تملك موارد هائلة يمكنها التصرف بها، وهي قادرة على النهوض من جديد، لا سيما أنها تستطيع استمالة موارد خارجية مهمة بسبب موقعها كبلد يحكم العالم، على المستويين النقدي (حق صك النقود) والسياسي العسكري (التسلط). ويصعب التخيل كيف يمكن إزاحة الولايات المتحدة من هذا الموقع. في الأوساط الحاكمة الأميركية، يُدرك بكل وضوح الواقع القائل إن ورقتهم الرابحة الأساسية تكمن في التفوق العسكري. وعلى عكس الذين لا يتوقفون أبداً عن قرع الناقوس إيذاناً بأفول لا نهاية له، يجب أن نكون دقيقين للغاية. فعلى الأرض، يبلغ التفوق العسكري الأميركي مستوى ارتفاع قياسياً مقارنةً بسائر العالم، وهو يمثّل المفتاح. ففي المجال العسكري، يفوق إنفاق الولايات المتحدة ما تنفقه كل الدول الأخرى مجتمعة، وهو أمر غير مسبوق في التاريخ. واضح أن الإنفاق على الأسلحة لا يُترجم إلى قوة عسكرية مباشرة لأن مجموعة كاملة من الشروط الأخرى تؤثر في المعادلة. ولكن، ومن دون استبعاد عقب أخيل الذي ذكرته سابقاً، تبقى القوة الفائقة، قوة فائقة، في ما يتعلق بقدرة القتال عن بعد، وواشنطن عازمة على إعادة تثبيت دورها كدولة حاكمة حامية لأوروبا واليابان.
لقد هدفت السياسات التي رسمها بريزينسكي لإدارة كلينتون ــــ وكان توسع الحلف الأطلسي عنصراً محورياً فيها ــــ إلى إضعاف روسيا من خلال مواجهتها بخيار مفروض بين الخضوع والتخلي عن كل الطموحات الإمبراطورية أو العودة إلى وضعية معارضة النظام الغربي. وإذ تقدم واشنطن نفسها كمدافعة عن الدول الواقعة على حدود روسيا، تعيد تثبيت دورها كحامية لـ«الديموقراطية» و«الحرية»، وكان ذلك هو الأساس المنطقي الأيديولوجي الذي اعتمدته في خلال الحرب الباردة.
بالإضافة إلى ذلك، ترى الولايات المتحدة نفسها متراساً بوجه قوة الصين المتنامية التي تقلق اليابان. وبالتالي، من منظور التحالفات التي تكوّنت في خلال الحرب الباردة وتوسعت منذ نهايتها، لا تزال واشنطن تثبت نفسها في موقع الحاكم الفعلي المطلق. وهذا ما ستحاول الإدارات المستقبلية استغلاله من جديد، من خلال محاولة صقل «القوة الناعمة» المهيمِنة للولايات المتحدة التي تضررت كثيراً في عهد بوش الرئاسي.
في رأيي، إن إصلاح الضرر الذي تسببت به إدارة بوش يمكن أن يسهّله مثل هذا التغيير الجذري والعميق في الوجه، تغيير صورة الولايات المتحدة. فـ«إمبريالية ذات وجه أسود وإنساني» من شأنها أن تصلح صورة الولايات المتحدة التي فقدت الكثير من بريقها بسبب الكارثة التي ألحقتها بها إدارة بوش. يبدو واضحاً أن مصالح الإمبريالية الأميركية تجد ضمانتها الأولى والأخيرة في التفوق العسكري، ولكن عملية شدّ وجه سياسية أيديولوجية هي متمم ضروري ومفيد.
ترجمة جورجيت فرشخ فرنجية
جريدة الاخبار- لبنان
عدد الاثنين 2 شباط (فبراير) 2009