الإكراه العنيف والاحتواء الإيديولوجي
إذا كانت الدولة، في التحليل الأخير، تجمعا من الرجال المسلحين، وإذا كانت سلطة طبقة مسيطرة قائمة في التعيين الأخير على الإكراه العنيف، يبقى أن هذه السلطة لا تستطيع أن تقتصر حصرا على هذا الإكراه. قال نابليون بونابرت أنه يمكن عمل أي شيء بالحراب، عدا الجلوس عليها. فإن مجتمعا طبقيا لا يقوم إلاّ على العنف المسلح قد يصبح في حال من الحرب الأهلية الدائمة، أي في حال من الأزمة بالغة الحدة.
لذا لا غنى من أجل تدعيم سيطرة طبقة على أخرى، لا غنى على الإطلاق عن جعل المنتجين، أعضاء الطبقة المستغَلة، يقبلون بتملك النتاج الاجتماعي الفائض من قبل أقلية على أنه أمر حتمي ودائم وعادل. ولهذا السبب لا تقوم الدولة بوظيفة قمع فحسب، بل تقوم أيضا بوظيفة احتواء أيديولوجي. إن « منتجي الأيديولوجية » هم الذين يؤمنون هذه الوظيفة الأخيرة.
إن من خصائص البشرية أنها لا تستطيع تأمين عيشها إلاّ بواسطة عمل اجتماعي يقتضي قيام روابط، أي علاقات إنتاج، بين البشر.
هذه الروابط التي لا غنى عنها تفرض ضرورة تواصل، أي لغة، بين البشر، الأمر الذي يسمح بتطور الوعي والفكر و« إنتاج الأفكار » (أي المفاهيم). هكذا فإن جميع الأعمال الهامة في الحياة البشرية مرفقة بتفكير حولها في ذهن البشر.
غير أن هذا التفكير لا يجري بصورة عفوية تماما. ولا يخترع دوما كل فرد أفكارا جديدة. بل يفكر معظم الأفراد بواسطة أفكار تعلموها في المدرسة أو الكنيسة وأيضا، في عصرنا هذا بواسطة أفكار مستعارة من التلفزيون أوالراديو، من الإعلانات أو من الصحف. إن إنتاج الأفكار، ونظم الأفكار المسماة بالإيديولوجيات، هو إذا محدود جدا. وهو يظهر أيضا كاحتكار لأقلية صغيرة في المجتمع.
إن الإيديولوجية السائدة، في كل مجتمع طبقي، هي أيديولوجية الطبقة السائدة. والسبب الأول في ذلك هو أن منتجي الأيديولوجية مرتهنون ماديا بمالكي النتاج الاجتماعي الفائض.
في بداية العصر الوسيط، كان الأسياد والكنيسة (وهي مالك عقاري إقطاعي كبير، إلى جانب النبلاء) ينفقون على الشعراء والرسامين والفلاسفة. وعندما تبدل الوضع الاجتماعي والاقتصادي، أوصى التجار ورجال المصارف الأغنياء هم أيضا على أعمال أدبية أو فلسفية أو فنية. بيد أن الارتهان المادي لم يخف، حتى جاءت الرأسمالية وظهر معها منتجو أيديولوجية لم يعد عملهم خاضعا مباشرة للطبقة السائدة، بل عملوا لأجل « سوق مغفلة ».
مهما يكن من أمر، فإن وظيفة الأيديولوجية السائدة هي بلا جدال وظيفة مثبتة للمجتمع كما هو، أي للسيطرة الطبقية. إن القانون يحمي شكل الملكية السائدة ويبرره. وتلعب العائلة الدور ذاته. أمّا الدين فيعظ المستغَلين بقبول مصيرهم. وتحاول الأفكار السياسية والأخلاقية السائدة أن تبرر حكم الطبقة السائدة بواسطة سفسطات أو حقائق نصفية (مثلا، الأطروحة التي صاغها غوته [30] أثناء الثورة الفرنسية وضدها، والقائلة أن الفوضى التي يخلقها النضال ضد الظلم هي أسوأ من الظلم ذاته. خلاصة القول: لا تغيروا النظام القائم).