نظم حزب الله بعض المظاهرات الكبيرة في لبنان تضامنا مع حركة حماس وسكان غزة. هل من شأن دعمه الاقتصار على صعيد سياسي أم ثمة إمكان فتح حزب الله جبهة ثانية مع إسرائيل على الحدود الشمالية، كما أثار البعض بصيغة تخويفية.
أنا أستبعد كليا إمكانية من هذا القبيل. يبدو أن الصواريخ الثلاثة المطلقة من لبنان نحو شمال إسرائيل من فعل مجموعات فلسطينية صغيرة مرتبطة بدمشق. و قد أنكر حزب الله على الفور أي مسؤولية من جانبه، و ندد التحالف الحكومي اللبناني الذي يضم حزب الله بإجماع بإطلاق تلك الصواريخ.
ثمة في الواقع، في هذا الطور، مظاهرات تضامن سياسي ضخمة، لكن حزب الله استخلص أيضا درس 2006. لا ننسينّ أن أمين عام حزب الله صرح في مقابلة، بعد حرب 33 يوما عام 2006 ، أنه لو علم أن إسرائيل سترد بذلك النحو على اختطاف الجنديين يوم 12 يوليو، لأحجم حزب الله عن خطفهما. كان يريد قول، أخذا بالاعتبار المشاعر الإنسانية، « لم أكن لأعطيهم هذه الذريعة لو علمت أنهم سيدمرون بلدي ويقتلون 1500 شخص من شعبيۛ».
وفي الآن ذاته نعلم أن الاختطاف لم يكن، بالنسبة إلى إسرائيل، غير ذريعة: لو لم يُختطف أي جندي، لوجدت إسرائيل، أو صنعت صنعا، ذريعة ما للقيام بما حاولته آنذاك. لقد قبل حزب الله القرار 1701 لمجلس أمن الأمم المتحدة. كان ذلك القرار يقضي لا بنشر الجيش اللبناني في جنوب لبنان وحسب، بل أيضا قوة دولية – الفينول، ما لم يكن في صالح حزب الله بالنظر إلى أن قسما كبيرا من تلك القوة مكون من جنود حلف شمال الأطلسي، ويمثل بالتالي خطرا على الحزب. و مع ذلك قبلها حزب الله لأن البديل كان يعني مواصلة الحرب الرهيبة ولأن ثمة حدودا إنسانية بهذا الصدد. لم يكن بوسعه إذن السماح لنفسه بالظهور كحزب عديم حس المسؤولية بالمبادرة إلى فتح جبهة ثانية – لا سيما بلا ضوء أخضر من دمشق و طهران.
و من جهة أخرى، كيف يمكن توقع فتح اللبنانيين جبهة ثانية فيما الفلسطينيون أنفسهم بالضفة الغربية، حتى حركة حماس، لا يفعلون ذلك؟ لم تطلق حركة حماس صواريخ من الضفة الغربية. وهذا يدل على فداحة خطأ حركة حماس بقرار استلامها كامل السلطة وحيدة في غزة، مؤدية على ذلك النحو إلى فصل المنطقتين الفلسطينيين. لا أقصد ألاّ تستبق الضربة التي كان محمد دحلان يعدها ضدها بدعم أمريكي وإسرائيلي، بل لم يكن عليها إبعاد حركة فتح كليا من مؤسسات السلطة الفلسطينية كما فعلت. هكذا، فيما ثمة ضرورة إستراتيجية لتنظيم النضال على صعيد المنطقة، هاهي الساحة الفلسطينية ذاتها مجزأة قسمين. هذا أمر مؤسف. كما توضح هذه الأحداث كامل مشكل الاختيار الاستراتيجي للأسلحة.
إن مقاومة حركة حماس بطولية، طبعا، لكن لا يمكن مقارنة شروط لبنان بتلك القائمة في فلسطين. لقد خاض حزب الله خلال سنوات احتلال إسرائيل للبنان حرب استنزاف، مركزا نشاطه بشكل أساسي على قوات الاحتلال بالمناطق اللبنانية. لا بل عقد في أبريل 1996 اتفاقا مع المحتل، بواسطة الولايات المتحدة الأمريكية، ينص على:« ألا تقوم المجموعات المسلحة اللبنانية بهجمات على إسرائيل بواسطة الكاتيوشا أو أسلحة أخرى. و ألا تستعمل إسرائيل والمتعاونون معها أي قوة ضد المدنيين أو أهداف مدنية بلبنان. كما يلتزم الطرفان بعدم مهاجمة مدنيين في أية ظروف، وألا ُتستعمل مناطق سكن المدنيين والمناطق الصناعية والتجهيزات الكهربائية قواعد لإطلاق هجمات.» كانت الطبيعة الجغرافية للميدان بلبنان، ووجود قوات إسرائيلية في المناطق اللبنانية المسكونة، يتيحان إستراتيجية مقاومة شعبية. وهذا ما أفضى إلى النصر لما ُأجبرت إسرائيل على الانسحاب من جنوب لبنان في العام 2000 فيما يشبه الكارثة.
الأمر مغاير تماما بغزة، حيث كانت القوات الإسرائيلية منسحبة من داخل القطاع ومطوقة إياه. لا كثير معنى، من وجهة نظر إستراتيجية، لمواجهتها عسكريا بإطلاق صواريخ صوب المناطق المسكونة بجنوب إسرائيل. الواقع أنه، من زاوية نظر الأراضي الفلسطينية المحتلة، يبدو جليا جدا من حصيلة لنضال الفلسطينيين ضد دولة إسرائيل منذ 1967 أن هذا النضال بلغ ذروة فعاليته في العام 1988، مع "ثورة الحجارة"، الانتفاضة الأولى، دون استعمال أسلحة نارية، ودون عمليات استشهادية، و دون صواريخ، لا شيء من هذا القبيل- التعبئة الجماهيرية فقط. هذه التعبئة ما أرعب إسرائيل، إذ وضعت الإسرائيليين في عوص سياسي كبير جدا.
يجب استخلاص دروس ذلك. إن مختلف القوى السياسية بالمنطقة لا تولي المسائل الإستراتيجية كافي الاهتمام. ثمة حاليا في النضال الفلسطيني كثير من القصوية المستلهمة للدين، كما سادت من قبل قصوية مستلهمة للقومية العربية. إن ما ينقص على العكس، هو تقييم واقعي للظروف من أجل بلورة إستراتيجية. لا إستراتيجية استسلام باسم "الواقعية"، طبعا، مثل إستراتيجية منظمة التحرير الفلسطينية – أقصد السلطة الفلسطينية- عرفات ومحمود عباس حاليا. إنما إستراتجية مقاومة وتحرير، مقاومة شعبية، لفرض كل هدف استراتجي ممكن على إسرائيل في الشروط القائمة. و ما يبقى واردا في الشروط الموضوعية الراهنة هو الحصول من إسرائيل على الانسحاب من الأراضي المحتلة في 1967، مع إمكان تنظيم تلك الأراضي لحكومتها الخاصة على نحو ديمقراطي، والحصول بالأقل على سيادة سياسية – الأمر غير ذلك حاليا، لما نرى كيف ردت إسرائيل و مساندوها الغربيون على فوز حماس بالانتخابات.
وفيما يتجاوز هذا الهدف الآني، يجب أن تتضمن الإستراتيجية الوحيدة المعقولة على المدى الطويل قلبا للمجتمع الإسرائيلي ذاته. ولن تكون مبلورة كإستراتيجية خارجية كليا بالنسبة للمجتمع الإسرائيلي كما كانت استراتيجيات منظمة التحرير الفلسطينية، سابقا، وحركة حماس حاليا. لا يمكن هزم إسرائيل عسكريا من خارج. هذا متعذر على صعيد الأسلحة التقليدية، لأن إسرائيل أقوى بكثير على هذا الصعيد من البلدان العربية المجاورة مجتمعة - دون اعتبار أن هذه غير مستعدة بتاتا لمواجهة إسرائيل، ولا أقصد مصر و الأردن فحسب بل حتى سوريا. و ليس لـ"حرب شعبية" من أجل تحرير فلسطين التاريخية معنى، لأن الإسرائيليين يشكلون أكثرية عريضة في أراضي قبل 1967. ليس الأمر كما لو تعلق بجيش احتلال، مثل الجيش الأمريكي في فيتنام، أو أفغانستان أو العراق، أو جيش إسرائيل في لبنان. و يدرك الجميع، من جهة أخرى، أن إسرائيل قوة نووية منذ متم سنوات 1960. إن كل مشروع قائم على تدمير الدولة الإسرائيلية من خارج مشروع لاعقلاني إذن، بكل دلالات الكلمة.
هكذا، حتى بوضع متطلبات النزعة الأممية جانبا، أي طراز النصر على الدولة الصهيونية الذي قد يكون مرغوبا، ليس ثمة، بكل الأحوال، إستراتيجية معقولة لهزمها دون اعتبار ضرورة قلب كبير للمجتمع الإسرائيلي ذاته. لا بد من معارضة قسم من المجتمع الإسرائيلي للسياسات الحربية للحكومة الإسرائيلية معارضة نشطة، ومن نضاله من أجل تسوية سلمية، دائمة، قائمة على العدالة، وتقرير المصير، و نهاية كل أشكال الميز. هذا شرط أساسي، وحاسم، وهذا ما يجعل انتفاضة 1988 كانت هامة جدا، حيث أثارت أزمة حقيقية، عميقة، داخل المجتمع الإسرائيلي ذاته. وعلى العكس، ما نشهد حاليا هو درجة تماسك عالية وإجماع الإسرائيليين على هذا العدوان الأشرس والأعنف في تاريخهم، والأمر نذير شؤم. و لن تكون النتيجة في هكذا شروط، حتى مع تكبد إسرائيل إخفاقات مثل إخفاق 2006، إثارة قطع أقسام هامة من سكان إسرائيل مع سياسة الحكومة (وأقل منه مع الصهيونية) ومعارضتهم للحرب، كما كانت حال قطاعات عريضة من سكان ألمانيا خلال الحرب العالمية الأولى أو السكان الأمريكيين إبان حرب فيتنام. ستكون النتيجة بالأحرى انزلاقات جديدة إلى يمين. لهذا السبب تظل اللوحة العامة بالمنطقة قاتمة جدا. كما سبق القول، إذا انتهى هذا الهجوم إلى فشل – وهذا ما نتمنى- نعلم مسبقا أن ذلك يعنى وصول ناتانياهو إلى السلطة، وهو أسوأ من القادة الحاليين. يصعب جدا التنبؤ بما سيؤول إليه هذا كله.